عبد الغنى الحايس يكتب : لمحات من القرية

قريتنا كان بها مدرسة ابتدائية واعدادية مشتركة، يتوافد عليها كل تلاميذ القري المجاورة، وتعمل علي فترتين، عندما يهطل المطر تتحول الشوارع الي برك من الماء والطين، تتوقف الدراسة لعدة أيام، وسط غياب المدرسين بسبب الطريق الطيني وتعذر أي وسيلة نقل عن الحركة، بل تتوقف الحياة، ونعيش في عزلة كاملة، وتتحول بعد غياب الشمس الي ظلام دامس، وسكون رهيب.
لم تتوقف حركة أهلينا، فيذهبون الي حقولهم، ورعاية أرضهم، وماشيتهم، ونحن معهم نعاونهم في كل الاعمال فلا فرق بين كبير وصغير، لكل فرد له دوره في إدارة شئون العائلة.
كان عمي خريج كلية اعلام جامعة القاهرة، هو ملازي دائما وقت الفراغ، اراه دائما يتصفح الكتب، ويشرح لي ملخص ما يقرأ، وبدأت استعير منه الكتب، لأدخل الي عالم واسع وفضفاض من المعرفة، وأصبح الكتاب صديقي الدائم، اختلس بعض الوقت من يوم مشحون من الذهاب الي المدرسة، او العمل اليومي المكلف به في الحقل، وكان الوقت المختلس علي حساب المذاكرة، لم تكن هناك كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا صرف صحي، ولا أي خدمات بشكل مطلق، كان لدينا وحدة صحية عبارة عن مبني أصم ليس به روح ولا حياة، موظفين نسمع عنهم ولا نراهم، وأهالي تذهب الي رجل خبير يدعي الطب وهو ليس بطبيب، يدور علي مرضاه صباحا كل يوم، يعطيهم الحقن ويبيع لهم الدواء، لم يعرفوا طريق الأطباء، فالذهاب الي المركز ضياع يوم بأكمله، ويتطلب استعداد كبير، ومصاريف هم في غني عنها، فالرجل المتقمص دور الطبيب يملك من الحكمة مالم يملكه الأطباء، والأهم انه يقيد في دفتره ما قدمه لهم، ويحصل علي مستحقاته نهاية كل موسم حصاد.
ومرت الأيام وجاء اليوم لان نستكمل تعليمنا في المدرسة الثانوية، وهذا يتطلب الإقامة في المركز، ومصاريف أكثر تثقل كاهل بعض الاسر، فيحجمون عن ارسال بناتهم، ويكتفوا من التعليم بالإعدادية، ايمانا بنظرية ان البنت خلقت للزواج، ومساعدة زوجها في الحقل، حتي لو استكملت دراستها فلن تدخل ثانوية عامة، وبعض الأولاد كانت ترهقهم المذاكرة، ويفضلون العمل في حقولهم، والزواج مبكرا لتكوين اسرة، وكانت نسبة المتسربين من التعليم عالية، ونسبة تعليم البنات منخفضة جدا، والزواج المبكر للفتاة الصغيرة مباح ولا غضاضة منه بين الأهالي، فالتركيبة الاجتماعية والعلاقات فيما بينهم تساعد في ذلك، وتصبح تلك الطفلة زوجه بين يوما وليلة، وتستمر الحياة.
كنت أفكر في كل تلك السلبيات، كيف يمكن التخلص منها، وتوعية الأهالي بخطورة ما يرتكبونه في حق أولادهم، سواء بتوقفهم عن التعليم، او تركهم يتزوجون وهم أطفال، أو رضاهم بتلك الحياة القاسية بدون ان يثوروا عليها، أو ينفعلوا بأن لهم حق في هذا الوطن، فهم من يعملون في قيظ الشمس، ومن تحملوا برودة الشتاء، يعملون بلا كلل او ملل، ليؤمنوا أمن الوطن الغذائي، عاشوا شهداء أحياء.
عندما ذهبت الي المدينة، كانت المقارنات تعصف بتفكيري، لماذا ليس لدينا طريق اسفلتي هكذا؟
لماذا ليس لدينا مستشفى به ممرضين وممرضات وأطباء؟
لم تنقطع الأسئلة التي تتوارد برأسي، تتكاثر الأسئلة ولكنها بلا أجوبة، كنت دائما أقول لنفسي اعتقد ان المسؤولين في هذا الوطن لا يعلمون ان تلك البقعة من الأرض تتبعهم، او انها اخر حدود الدنيا، او انها بعيدة بما لا يمكن ان يصل اليها أحد.
برغم أن القرية يزورها مرشح مجلس الشعب قبل انتخابات كل دورة برلمانية، بعدها يصعب الوصول اليه، وكان يبالغ في وعودة لكبار رجال القرية، بانه سيفعل كذا وكذا ثم يختفي ولا يظهر الي في الدورة الجديدة.
سعدنا وقت ان قالوا لنا لقد وافقوا علي مقترح النائب الهمام بإنشاء مركز شباب، وكان عبارة عن غرفة في بيت يعمل به عدد من الموظفين، كل عملهم انهم يقبضون مرتبات، ولاستكمال الصورة تم النداء عبر ميكرفون المسجد بفتح باب العضوية، ليتم انتخاب مجلس إدارة، وقد دفعوا لنا قيمة الاشتراكات وانتخبوا بدلا منا، واستباحوا كل شيء، وكانت الحقيقة الوحيدة في المجلس هي لافته باهته كتب عليها مركز شباب قرية ….
كانت جلستنا الدائمة في ساحة الوحدة الصحية الصماء، نتناقش في كل الأمور، نتدبر طريق الخلاص، ونستنبط نتيجة تحركاتنا، فلم تكن بالسهلة ابدا. فنحن في مجتمع تحكمه كثير من التقاليد والأخلاقيات، فلو تعرضنا بالهجوم علي فلان سيكون عقابنا من الاهل قاسيا، فكيف تتعدي الكبار، وكيف لا تحترم الكبير، وكيف تتكلم في حضرة الكبير، وكيف ترفع صوتك في حضرة الكبار، وكيف تلك لا تنتهي؟
وفي لحظة انفعال تجرأنا ولم نعد نخاف من كيف التي تنتظرنا، وكانت النتائج وخيمة.
وهذا ما نعرفه في المقال القادم