“تفكيك منارات الإبداع : إغلاق 120 قصرًا للثقافة في مصر وتأثيره العميق على الهوية ومواجهة التطرف”

كتبت : جيهان عطا
في خطوة مفاجأة ومثيرة للقلق العميق في أوساط المثقفين والفنانين والمهتمين بالشأن العام، أعلن وزير الثقافة المصري الحالي الدكتور أحمد فؤاد هنو، عن قرار يقضي بإغلاق ما يقارب 120 قصرًا من قصور الثقافة المنتشرة في ربوع الجمهورية، هذا القرار الذي صدر في توقيت بالغ الحساسية يهدد بتقويض الدور الحيوي الذي تلعبه هذه المؤسسات العريقة في صون الهوية الثقافية المصرية الأصيلة، وتعزيز الوعي المجتمعي، وتمكين الأفراد في مواجهة تحديات العصر، وعلى رأسها التطرف الفكري ،إن قصور الثقافة لطالما كانت بمثابة الحصن الأمين للقيم النبيلة والإبداع الخلاق، وإغلاق هذا العدد الكبير منها يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل العمل الثقافي في مصر وتأثيره على النسيج المجتمعي برمته.
أولاً: سياق القرار وأبعاده الخفية
جاء إعلان الدكتور أحمد فؤاد هنو عن إغلاق 120 قصرًا للثقافة ليثير موجة من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا القرار المفاجئ. فبينما صرح الوزير بأن هذا الإجراء يأتي في إطار خطة شاملة لإعادة هيكلة المنظومة الثقافية، ومعالجة ضعف البنية التحتية وتدني مستوى الأنشطة في بعض المواقع، بالإضافة إلى ضعف الإقبال الجماهيري في مناطق أخرى، فإذ بالأسباب المعلنة لا ترقى إلى حجم القرار وتداعياته المحتملة.
تمتلك مصر شبكة واسعة من قصور الثقافة تجاوز عددها الـ 450 قصرًا منتشرة في مختلف المحافظات، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن المدن الكبرى إلى القرى النائية. هذه القصور ليست مجرد مبانٍ تقدم خدمات ثقافية، بل هي بمثابة مراكز إشعاع فكري وفني، وملاذات آمنة للإبداع والتعبير الحر، ومنصات للحوار والتفاعل المجتمعي. حيث لعبت دورًا محوريًا على مدى عقود في تشكيل الوعي الثقافي للملايين من المصريين، وكانت شاهدًا على تخريج أجيال من المبدعين والمثقفين الذين أثروا الحياة الثقافية والفنية في مصر إن الحديث عن ضعف البنية التحتية أو قلة الإقبال في بعض القصور لا يمكن أن يبرر إغلاق هذا العدد الهائل دفعة واحدة. فبدلًا من اتخاذ قرار جذري بالإغلاق، كان من الأولى بالوزارة أن تتبنى خطة طموحة لتطوير هذه القصور، ورفع كفاءة العاملين فيها، وتقديم برامج ثقافية مبتكرة وجذابة تلبي احتياجات وتطلعات مختلف فئات الجمهور. إن إعادة الهيكلة الحقيقية تتطلب دراسة متأنية لأوضاع كل قصر على حدة، وتحديد نقاط القوة والضعف فيه، ووضع خطط تفصيلية للتحسين والتطوير، وليس قرارًا شاملًا بالإغلاق يبدو وكأنه يستهدف تقليص دور الدولة في دعم الثقافة.
ثانيا الدور المحوري لقصور الثقافة في نسيج المجتمع المصري
لقصور الثقافة دور محوري ولا غنى عنه في بناء وتنمية المجتمع المصري، فهي ليست مجرد أماكن لتقديم الأنشطة الفنية والثقافية، بل هي مؤسسات تربوية وتنويرية واجتماعية تساهم بشكل فعال في تعميق الهوية الثقافية والانتماء الوطني: تعمل قصور الثقافة على ربط الأجيال الشابة بتاريخهم الحضاري العريق وتراثهم الثقافي المتنوع. من خلال الفعاليات التي تحتفي بالفنون الشعبية، والأدب المصري، والتاريخ الوطني، تساهم هذه القصور في غرس قيم الفخر بالهوية والانتماء إلى الوطن، وتعزيز الشعور بالوحدة الوطنية في مواجهة محاولات التفتيت والتشويه. لقد كانت هذه القصور بمثابة خزائن حية تحفظ الذاكرة الجمعية للأمة وتنقلها إلى الأجيال القادمة.، وتحصين المجتمع ضد التطرف الفكري والإرهاب في ظل التحديات التي تواجه المجتمع المصري من قبل الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى نشر أفكارها الهدامة، فتلعب قصور الثقافة دور خط الدفاع الأول في مواجهة هذا الخطر. من خلال نشر قيم التسامح والاعتدال والحوار وقبول الآخر، وتقديم بدائل ثقافية وفنية راقية، تساهم هذه القصور في تحصين الشباب والمجتمع ككل ضد الأفكار المتطرفة التي تغذي العنف والإرهاب. إن إغلاق هذه المنابر الثقافية يمثل تراجعًا خطيرًا في هذه المعركة الفكرية المصيرية.
كما تساهم قصور الثقافة في اكتشاف ورعاية المواهب الشابة وتمكين المبدعين: لطالما كانت قصور الثقافة حاضنة للمواهب الشابة في مختلف المجالات الفنية والأدبية. من خلال ورش العمل والدورات التدريبية والمسابقات والفعاليات المتنوعة، وتتيح الفرصة أمام الشباب للتعبير عن إبداعاتهم وتنمية قدراتهم وصقل مهاراتهم. انها بمثابة البوابة التي عبر منها العديد من الفنانين والأدباء والمثقفين الذين أثروا الحياة الثقافية في مصر. إن إغلاقها يعني حرمان جيل كامل من هذه الفرص الثمينة.
قصور الثقافة لها دور في تعزيز التفاعل المجتمعي والحوار البناء حيث تعمل كمراكز التقاء للحوار والتفاعل بين مختلف فئات المجتمع. فهي توفر مساحات آمنة ومنفتحة لتبادل الأفكار والآراء، ومناقشة القضايا التي تهم المجتمع، وتعزيز قيم الديمقراطية والمواطنة الفاعلة وقد يؤدى إغلاق هذه المراكز الاجتماعية والثقافية إلى تراجع التواصل بين أفراد المجتمع وزيادة الانعزالية
لا يقتصر دور قصور الثقافة على الفنون والآداب، بل يمتد ليشمل نشر الوعي والمعرفة في مختلف المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية. من خلال الندوات والمحاضرات وورش العمل والمعارض، تساهم هذه القصور في إثراء المعرفة العامة لدى الجمهور وتنمية ثقافتهم الشاملة.
ثالثًا: التداعيات الكارثية لقرار الإغلاق
إن قرار إغلاق 120 قصرًا للثقافة يحمل في طياته تداعيات وخيمة على مختلف الأصعدة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويمكن تلخيص أبرز هذه التداعيات فيما يلي:
1. على المستوى الثقافي والفني
يمثل إغلاق هذا العدد الكبير من قصور الثقافة ضربة موجعة للجسد الثقافي المصري. فهذه القصور ليست مجرد أماكن لتقديم العروض الفنية أو تنظيم الندوات الأدبية، بل هي بمثابة شرايين حيوية تمد الحركة الثقافية والفنية في مصر بالدماء الجديدة والأفكار المبتكرة. إن تقليص هذه المنابر الثقافية يعني حرمان الفنانين والمثقفين، خاصة في الأقاليم والمناطق النائية، من المساحات التي يمكنهم من خلالها عرض أعمالهم والتواصل مع الجمهور. كما يعني تضييق الخيارات المتاحة أمام المواطنين للوصول إلى المنتج الثقافي والفني الرفيع، مما قد يؤدي إلى تراجع الذائقة الفنية وتهميش الإبداع المحلي.
2. على المستوى الاجتماعي
تعتبر قصور الثقافة بمثابة صمغ يربط أواصر المجتمع ويقوي نسيجه الاجتماعي. فهي توفر بيئة حاضنة للتفاعل الإيجابي بين مختلف الفئات العمرية والاجتماعية، وتعزز قيم التعاون والتسامح والاحترام المتبادل. إن إغلاق هذه المراكز الاجتماعية والثقافية قد يؤدي إلى تفكك الروابط المجتمعية وزيادة الشعور بالعزلة والانفصال بين أفراد المجتمع. كما أن حرمان الشباب من هذه المساحات الآمنة قد يدفعهم إلى البحث عن بدائل أخرى قد تكون سلبية أو هدامة.
3. على مستوى الشباب والمواهب
يمثل الشباب الشريحة الأكثر تضررًا من قرار إغلاق قصور الثقافة. فهذه المؤسسات تمثل بالنسبة للكثير منهم نافذة يطلون منها على عالم الإبداع والفن، وفرصة لاكتشاف وتنمية مواهبهم وقدراتهم. إن حرمان الشباب من هذه الفرص قد يؤدي إلى إحباط طموحاتهم وتهميش إبداعاتهم، مما قد يكون له آثار سلبية على مستقبلهم ومستقبل الوطن. إن الاستثمار في طاقات الشباب ورعاية مواهبهم هو أساس بناء مجتمع قوي ومزدهر، وإغلاق قصور الثقافة يمثل تراجعًا عن هذا الاستثمار الحيوي.
4. على المستوى الاقتصادي
قد يبدو للبعض أن قصور الثقافة تمثل عبئًا على الميزانية العامة للدولة، ولكن الحقيقة هي أنها تساهم بشكل غير مباشر في التنمية الاقتصادية. فهي تخلق فرص عمل للعاملين في المجال الثقافي والفني، وتجذب السياحة الثقافية، وتساهم في تنشيط الحركة التجارية في المناطق المحيطة بها. إن إغلاق هذا العدد الكبير من القصور قد يؤدي إلى فقدان العديد من فرص ا5. مخاطر تهديد الهوية الثقافية
في ظل العولمة الثقافية وتحديات الحفاظ على الخصوصية الثقافية، تلعب قصور الثقافة دورًا حيويًا في حماية وتعزيز الهوية الثقافية المصرية. من خلال الاحتفاء بالتراث والفنون والآداب المحلية، تساهم هذه القصور في نقل القيم والعادات والتقاليد الأصيلة إلى الأجيال الجديدة، وتحصينها ضد تأثيرات الثقافات المضادة للهوية لتي قد تهدد الهوية الوطنية. إن إضعاف دور قصور الثقافة من خلال إغلاقها يمثل خطرًا حقيقيًا على مستقبل الهوية الثقافية المصرية.
رابعًا: قرار محفوف بالمخاطر في مواجهة التطرف
في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الصراع الفكري والثقافي، وتسعى فيه قوى التطرف إلى استقطاب الشباب ونشر أفكارها الظلامية، تمثل قصور الثقافة خط المواجهة الأول في هذه المعركة. فمن خلال الأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة التي تقدمها، تعمل على تعزيز قيم التسامح والاعتدال والحوار وقبول الآخر، وتقديم نماذج ثقافية وفنية إيجابية بديلة للأفكار المتطرفة التي تغذي العنف والكراهية.
إن إغلاق 120 من هذه المنابر الثقافية الهامة يمثل تقويضًا للجهود المبذولة لمكافحة التطرف الفكري، وقد يخلق فراغًا قد تستغله الجماعات المتطرفة لنشر أفكارها المسمومة. إن حرمان الشباب من هذه المساحات الثقافية الآمنة والجاذبة قد يجعلهم أكثر عرضة للتأثر بالأيديولوجيات المتطرفة التي تستغل جهلهم وحاجتهم إلى الانتماء.
إن تعزيز دور قصور الثقافة وتوسيع نطاق أنشطتها يجب أن يكون أولوية قصوى في استراتيجية الدولة لمكافحة التطرف، وليس تقليص دورها من خلال الإغلاق. إن الاستثمار في الثقافة والفنون هو استثمار في عقول وسلوكيات الشباب، وهو أقوى سلاح في مواجهة الأفكار الهدامة
قرار إغلاق قصور الثقافة “كارثة ثقافية” و”خطوة إلى الوراء في مسيرة التنوير”.
لذا ندعو الي ضرورة التراجع عن هذا القرار، ووضع خطة استراتيجية واضحة لتطوير قصور الثقافة ودعم دورها في المجتمع، بدلًا من تهميشها وإغلاقها وضرورة تبني رؤية استراتيجية شاملة للثقافة
إن قرار إغلاق قصور الثقافة يكشف عن غياب رؤية استراتيجية واضحة للثقافة في مصر. فبدلًا من النظر إلى الثقافة باعتبارها استثمارًا حيويًا في بناء الإنسان وتنمية المجتمع، يبدو أن هناك ميلًا إلى التعامل معها كعبء يمكن تقليصه إن بناء مجتمع قوي ومزدهر يتطلب استثمارًا حقيقيًا في الثقافة والفنون، ودعم المؤسسات الثقافية التي تلعب دورًا محوريًا في هذا المجال، و على الدولة أن تتبنى رؤية استراتيجية شاملة للثقافة، تهدف إلى تطوير البنية التحتية لقصور الثقافة من خلال تخصيص الموارد اللازمة لتحديث وتطوير المباني والمرافق والتجهيزات في قصور الثقافة، بما يضمن توفير بيئة جاذبة ومناسبة لتقديم الأنشطة الثقافية والفنية.
رفع كفاءة العاملين في قصور الثقافة من خلال تنظيم برامج تدريبية متخصصة للعاملين في قصور الثقافة، لتمكينهم من تقديم خدمات ثقافية عالية الجودة وتطوير برامج مبتكرة تلبي احتياجات الجمهور.
تحديث البرامج والأنشطة الثقافية من خلال تقديم برامج ثقافية وفنية متنوعة وجذابة، تستجيب لاهتمامات مختلف فئات الجمهور، وتواكب التطورات الحديثة في مجالات الفنون والآداب والعلوم.
تفعيل دور قصور الثقافة في خدمة المجتمع من خلال تعزيز الشراكة بين قصور الثقافة والمؤسسات المجتمعية الأخرى، وتوجيه الأنشطة الثقافية لمعالجة القضايا التي تهم المجتمع والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة.
الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة من خلال تبني التحول الرقمي في العمل الثقافي، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في نشر المحتوى الثقافي والوصول إلى جمهور أوسع، وتوفير منصات تفاعلية للتواصل بين الجمهور والمؤسسات الثقافية.
ونؤكد على إن قرار إغلاق 120 قصرًا للثقافة يمثل منعطفًا خطيرًا في مسيرة العمل الثقافي في مصر. فبدلًا من أن تكون هذه المؤسسات منارات تضيء دروب المعرفة والإبداع، فإنها تواجه خطر التلاشي والانطفاء، إن الثقافة ليست ترفًا أو هامشًا، بل هي عصب الحياة وروح المجتمع، وهي الأساس الذي تبنى عليه الحضارات وتزدهر الأمم، إن إعادة النظر في هذا القرار وتبني رؤية استراتيجية طموحة للثقافة هو واجب وطني ومسؤولية تاريخية. يجب على الدولة أن تعي الدور الحيوي الذي تلعبه قصور الثقافة في بناء الوعي، وتعزيز الهوية، ومواجهة التطرف، وتمكين الشباب، وتنمية المجتمع. إن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في مستقبل مصر، وإغلاق قصور الثقافة هو خسارة فادحة لا يمكن تعويضها بسهولة. يجب أن تتضافر جهود الحكومة والمثقفين والفنانين والمجتمع المدني للحفاظ على هذه المنارات الثقافية وتطويرها، لتبقى منارة تضيء دروب الأجيال القادمة.