الكوتة البرلمانية في مصر: رحلة نحو التمثيل العادل ومستقبل الديمقراطية

الكوتة البرلمانية في مصر: رحلة نحو التمثيل العادل ومستقبل الديمقراطية
كتبت: جيهان عطا
في قلب أي نظام ديمقراطي حقيقي، يكمن مبدأ التمثيل العادل لكافة أطياف المجتمع. فالحكومة التي تعكس تنوع شعبها هي حكومة أكثر قوة، وأكثر شرعية، وأكثر قدرة على تلبية احتياجات مواطنيها. في مصر، هذا المبدأ ليس مجرد شعار، بل هو رحلة طويلة من النضال والتطور التشريعي، تُوجت بإدراج الكوتة البرلمانية في دستور 2014. هذه الأداة الدستورية، التي نبعت من رحم مطالب مجتمعية واسعة، لا سيما من قبل الشباب الواعي، تُعد حجر الزاوية في بناء برلمان يعكس حقيقة المجتمع المصري بكل مكوناته وتنوعاته. إنها ليست مجرد آلية تقنية، بل هي تعبير عن عقد اجتماعي جديد، يهدف إلى تصحيح مسارات تاريخية من الإقصاء والتهميش، ويضع أسسًا راسخة لعدالة اجتماعية حقيقية.
جذور المطالبة بالكوتة: سياق تاريخي واجتماعي
لم تكن فكرة الكوتة وليدة اللحظة في مصر. بل هي نتاج عقود من النضال المدني والاجتماعي الذي قادته قوى المجتمع المدني، لا سيما الحركات النسائية التي طالبت بتمثيل المرأة سياسياً لعقود طويلة. في الأنظمة البرلمانية التي اعتمدت في معظمها على النظام الفردي، غالبًا ما كانت فرص الفئات المهمشة، مثل النساء والشباب الأقباط وذوي الإعاقة ، محدودة جدًا في الوصول إلى مقاعد البرلمان. كانت ديناميكيات الانتخابات الفردية تفضل المرشحين ذوي النفوذ العائلي أو المالي أو الحزبي التقليدي، مما أدى إلى برلمانات لا تعكس التنوع الديموغرافي للمجتمع.
تاريخيًا، شهدت مصر محاولات متقطعة لتعزيز تمثيل المرأة، مثل تخصيص مقاعد للنساء في فترات سابقة، لكنها كانت غالبًا ما تُعد إجراءات استثنائية وليست مبدأ دستوريًا راسخًا. ومع التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد في أعقاب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، برزت الحاجة الملحة لإعادة بناء المؤسسات الدستورية على أسس أكثر شمولية وعدالة. كانت هذه اللحظة التاريخية فرصة ذهبية لترسيخ مبادئ العدالة التمثيلية بشكل دائم وغير قابل للتراجع. لم تعد المطالبة بالكوتة تقتصر على المرأة فقط، بل امتدت لتشمل فئات أخرى طالما كانت مغيبة عن المشهد السياسي الفاعل.
مؤتمر الكوتة: الشباب يصوغ المستقبل الدستوري
في خضم النقاشات الدستورية الساخنة التي سبقت إقرار دستور 2014، ظهرت مبادرة رائدة لعبت دورًا محوريًا في صياغة الرؤى المستقبلية للدولة.حيث كان مؤتمر الكوتة ، الذي نظمته مجموعة من الشباب القبطى والشخصيات العامة كالمستشارة تهانى الجبالى ( رحمة الله عليها) وغيرها من المعروفين بنضالهم الحقوقي ، مثالًا ساطعًا على هذا الدور الفاعل. لم يكن هذا المؤتمر مجرد تجمع شكلي، بل كان منصة حقيقية للحوار وتبادل الأفكار، جمعت تحت مظلتها شباب وشخصيات عامة لهم تاريخ نضالى يطمحون إلى بناء دولة لا تُقصي أحدًا.
ناقش الشباب في هذا المؤتمر بعمق آليات ضمان التمثيل العادل، واستعرضوا التجارب الدولية في هذا الصدد. كان هدفهم الأساسي هو تقديم توصيات واضحة ومحددة إلى لجنة الخمسين التي كانت مكلفة بصياغة الدستور. شملت هذه التوصيات:
ضرورة تخصيص نسب تمثيلية محددة (كوتات)
للمرأة، بهدف تجاوز النسب الضئيلة التي كانت تحصل عليها في الانتخابات السابقة.
تمثيل الأقباط والمصريين بالخارج، لضمان أن يكون البرلمان مرآة حقيقية لتنوع المجتمع المصري بكل أطيافه.
ضمان تمثيل الشباب ، إيمانًا بقدراتهم على التجديد والابتكار، وضرورة إشراكهم في عملية صنع القرار.
تضمين ذوي الإعاقة في الحياة السياسية، كخطوة أساسية نحو إزالة الحواجز وتوفير فرص متساوية لهم.
اللافت للنظر في هذا المؤتمر، وفي حركة الشباب عمومًا، هو أنهم لم يكونوا مجرد مطالبين بالكوتة لأنفسهم، بل كانوا حماة لمبدأ العدالة الشاملة، ودافعين لتمثيل جميع الفئات المهمشة. لقد كانت رؤيتهم تتجاوز المصالح الفئوية الضيقة نحو مصلحة وطنية عليا. وقد تجسد هذا الدور المحوري للشباب في المواد الدستورية التي أقرت فعليًا هذه الكوتات، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من العقد الاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين الدولة والمواطن. المواد (11، 53، 243، 244) من دستور 2014 لم تكن مجرد نصوص قانونية، بل كانت ترجمة لأحلام وتطلعات جيل كامل آمن بالتغيير.
القوائم المغلقة: دعامة للتمثيل النوعي وتدعيم للحياة الحزبية
إن إقرار الكوتة وحده لا يكفي لضمان التمثيل العادل، بل يجب أن يقترن بآليات انتخابية تدعم تنفيذها بفاعلية. هنا يأتي دور نظام القوائم الانتخابية المغلقة. في هذا النظام، تقوم الأحزاب والتحالفات السياسية بتقديم قوائم مرشحين محددة مسبقًا، تشمل عددًا من المرشحين يغطون جميع مقاعد الدائرة الانتخابية. ويكون الناخب أمامه خيار التصويت لقائمة بأكملها، لا لمرشحين فرديين.
تُعد القوائم المغلقة أداة بالغة الأهمية لعدة أسباب:
ضمان تطبيق الكوتات الدستورية بصرامة تُلزم القوائم المغلقة الأحزاب بتضمين الفئات المستهدفة بالكوتة (المرأة، الشباب، ذوي الإعاقة، الأقباط، المصريين بالخارج) بنسب محددة في قوائمها. هذا يضمن عدم إهمال هذه الفئات أو تقليل فرصها، ويجعل الكوتة فعالة وملزمة.
تقليل تأثير المال السياسي والنفوذ العائلي في النظام الفردي، غالبًا ما يفوز المرشحون الذين يمتلكون قدرة مالية كبيرة على الدعاية الانتخابية أو نفوذًا عائليًا واسعًا. القوائم المغلقة تحول التركيز من المرشح الفردي إلى البرنامج الحزبي ورؤية التحالف، مما يقلل من هذه التأثيرات السلبية.
تدعيم الحياة الحزبية والتحالفات السياسية تشجع القوائم المغلقة الأحزاب على بناء تحالفات قوية وتقديم برامج متكاملة للمواطنين. بدلاً من التنافس الفردي، يصبح التركيز على العمل الجماعي وتوحيد الجهود، مما يقوي الأحزاب ككيانات سياسية ذات رؤى واضحة.
زيادة فرص وصول الكفاءات تتيح القوائم للأحزاب اختيار مرشحين بناءً على كفاءاتهم وخبراتهم وقدرتهم على تمثيل فئات معينة، وليس فقط على شعبيتهم الفردية في دائرة صغيرة.
تحقيق التوازن الجغرافي والديموغرافي: يمكن للأحزاب صياغة قوائمها لضمان تمثيل متوازن لمختلف المناطق الجغرافية والشرائح الديموغرافية داخل الدائرة الواحدة أو على مستوى الجمهورية.
التجربة المصرية في تطبيق القوائم المغلقة، بالاقتران مع الكوتة، أظهرت نتائج إيجابية في زيادة تمثيل المرأة والشباب بشكل ملحوظ في البرلمان، وهو ما يُعد خطوة مهمة نحو تحقيق التنوع المنشود.
مطلب شعبي لزيادة عدد النواب: ضرورة ديموغرافية ودستورية
مع مرور ما يقرب من عقد من الزمان على إقرار دستور 2014، تغير المشهد الديموغرافي المصري بشكل كبير. فقد تجاوز عدد السكان حاجز الـ105 ملايين نسمة، بزيادة مطردة لم تتوقف. هذه الزيادة السكانية الكبيرة تفرض تحديًا حقيقيًا على كفاءة التمثيل البرلماني الحالي. فعدد النواب الحالي، الذي قد لا يزال يتناسب مع عدد السكان وقت صياغة الدستور، أصبح غير كافٍ لضمان تمثيل عادل وكافٍ لكل مواطن.
يُعد مطلب زيادة عدد النواب ضرورة ملحة لأسباب عدة:
العدالة في التمثيل الجغرافى والديموغرافي: مع تضخم عدد السكان في الدوائر الانتخابية، يصبح صوت الناخب أقل وزنًا، ويقل عدد النواب الذين يمثلون عددًا كبيرًا جدًا من المواطنين. هذا يؤثر على مبدأ “صوت واحد، قيمة واحدة” ويقلل من فعالية التمثيل.
قدرة النائب على خدمة دائرته: عندما يمثل النائب عددًا هائلاً من المواطنين، يصبح من الصعب عليه الإلمام بقضايا دائرته بشكل فعال، والتواصل مع جميع مكوناتها، وتقديم الخدمات المطلوبة. هذا يؤدي إلى ضعف العلاقة بين الناخب ونائبه وإحساس الناخب بعدم التمثيل الكافي.
الفروقات بين المناطق الحضرية والريفية: تحقيق المساواة في” الصوت الانتخابي” بين المناطق الحضرية والريفية.
غالبًا ما تعاني المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، سواء كانت حضرية أو ريفية، من نقص في التمثيل مقارنة بمناطق أقل كثافة سكانية، مما يخلق تفاوتًا في وصول الخدمات والاهتمام التشريعي.
عدم تكدس الدوائر الانتخابية وغياب النائب عن قضايا دائرته لضعف القدرة التمثيلية.
مقارنات دولية: بالنظر إلى التجارب الدولية، نجد أن الدول ذات الكثافة السكانية المماثلة لمصر لديها عدد أكبر من النواب لضمان تمثيل أفضل. فالمعيار المتعارف عليه عالميًا هو أن يكون لكل عدد معين من السكان نائب يمثله لذلك، فإن المطالبة بزيادة عدد النواب في مصر ليست مجرد رغبة، بل هي ضرورة ديموغرافية وقانونية تستند إلى مبادئ العدالة التمثيلية المطبقة في العديد من الدول الديمقراطية حول العالم، وتساهم في تعزيز فعالية البرلمان ودوره في خدمة المجتمع.
التكلفة مقابل الفعالية: قد يرى البعض أن زيادة عدد النواب ستزيد من التكلفة، ولكن يجب النظر إلى هذه التكلفة كاستثمار في فعالية العملية الديمقراطية. برلمان يمثل الشعب بفاعلية أكبر هو برلمان قادر على اتخاذ قرارات أفضل تخدم الصالح العام.
يجب أن يتم تناول هذا المطلب من خلال دراسات متأنية تُجريها لجان متخصصة، تأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية، والتوزيع الجغرافي، والتوصيات الدولية، لضمان تحديد العدد الأمثل من النواب الذي يحقق التوازن بين التمثيل الفعال والكفاءة الإدارية.
تحديات وآفاق مستقبلية: نحو عدالة برلمانية شاملة
على الرغم من التقدم المحرز في إرساء مبادئ العدالة التمثيلية من خلال الكوتة والقوائم المغلقة، إلا أن هناك تحديات لا تزال قائمة، وتتطلب متابعة وتطويرًا مستمرين. من هذه التحديات:
تطبيق الكوتة بشكل فعال: قد تواجه بعض الأحزاب صعوبات في إيجاد مرشحين مؤهلين من الفئات المستهدفة بالكوتة في بعض الدوائر. يتطلب ذلك بناء كوادر سياسية من هذه الفئات وتدريبها وتأهيلها.
زيادة الوعي بأهمية الكوتة: لا يزال هناك بعض الجدل المجتمعي حول الكوتة، حيث يراها البعض “تمييزًا” بدلاً من “إنصاف”. يتطلب ذلك حملات توعية مستمرة لشرح أهميتها كآلية لضمان التمثيل وليس تفضيلًا.
دور الشباب بعد الدستور: بعد نجاح الشباب في إدراج الكوتة، يجب استمرار دورهم في المراقبة والضغط لضمان تنفيذ الدستور بشكل كامل، والمطالبة بالمزيد من الإصلاحات الديمقراطية.
تطوير الحياة الحزبية: الكوتة والقوائم المغلقة تدعم الحياة الحزبية، ولكن يجب أن تتطور الأحزاب نفسها لتصبح أكثر ديمقراطية وشفافية وتضمينًا لمختلف الفئات.
المستقبل الديمقراطي لمصر يعتمد بشكل كبير على قدرة المؤسسات على التكيف مع التغيرات الديموغرافية والاجتماعية. الإبقاء على الكوتة كأداة إنصاف، والاعتماد على القوائم المغلقة كآلية لتعزيز التمثيل النوعي، وإعادة النظر في عدد نواب البرلمان بما يتماشى مع الزيادة السكانية، كلها خطوات ضرورية لضمان برلمان يعكس التنوع المصري، ويجسد تطلعات الشعب، ويقدم تشريعات تخدم الصالح العام.
إن البرلمان ليس مجرد مبنى يضم نوابًا، بل هو مرآة تعكس وعي المجتمع، ومدى تطوره، وقدرته على تحقيق العدالة والمساواة. وعندما يكون هذا البرلمان تمثيليًا بصدق، يصبح أداة قوية لتحقيق التنمية الشاملة والاستقرار، ويعزز من ثقة المواطن في مؤسسات دولته. إن رحلة مصر نحو العدالة التمثيلية هي رحلة مستمرة، تتطلب تضافر الجهود من الجميع، لضمان أن يكون صوت كل مصري مسموعًا وممثلًا في قلب السلطة التشريعية.لقد
كان إقرار الكوتة في الدستور المصري انعكاسًا لإرادة شعبية واعية، شارك الشباب في بلورتها خلال مراحل التحول الوطني. واليوم، بات من الضروري استكمال هذا المسار عبرالإبقاء على الكوتة كأداة إنصاف ، والاعتماد على القوائم المغلقة لتعزيز التمثيل النوعي.وايضاً إعادة النظر في عدد نواب البرلمان بما يتماشى مع الزيادة السكانية المستمرة.”.