هل أضحت مصر تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي في ألبان الأطفال؟

كتب- أحمد جمعة:
عاد حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن أهمية إنشاء مصنع لإنتاج ألبان الأطفال في مصر، إلى الواجهة الشعبية والإعلامية، معبرًا عن حلم تحقيق الاكتفاء الذاتي من لبن الأطفال.
قال الرئيس السيسي قبل أيام: “لبن البودرة.. 45 مليون علبة.. لغاية دلوقتي ميتعملش مصنع لإنتاج لبن الأطفال في مصر؟”، في إشارة إلى حجم الاستيراد الذي يتراوح بين 40 إلى 45 مليون عبوة سنويًا. فكيف يمكن لمصر أن تقترب من تحقيق حلم الاكتفاء الذاتي في هذا القطاع؟
السوق المصرية تعتمد بشكل رئيسي على الألبان المستوردة، مما يجعل هذا الملف عرضة لتقلبات السوق وسلاسل الإمداد. ففي 2016، شهدت مصر أزمة حادة في توفر الألبان المدعمة، وتدخلت القوات المسلحة لاستيراد نحو 30 مليون عبوة لتغطية العجز.
وفي 2024، تكررت الأزمة بنسبة نقص في المعروض تتراوح بين 25% و30%، نتيجة تعثر الوكيل المحلي لأكبر شركة أجنبية كانت تسيطر على السوق، مما أدى إلى توقف توريد أحد الأصناف الشهيرة.
ويرى خبراء أن دعوة الرئيس لتوطين صناعة ألبان الأطفال تمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق أمن غذائي ودوائي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وخفض الأعباء عن أسر المواطنين، خاصة مع ارتفاع الأسعار بالسوق الحرة.
وبحسب مصدر مطلع في قطاع الأدوية، يبلغ متوسط استهلاك السوق المصري نحو 50 مليون عبوة سنويًا، وهو من أعلى المعدلات عالميًا، نتيجة الكثافة السكانية.
ويُوزع الاستهلاك بين القطاعين العام والخاص؛ حيث توفر وزارة الصحة حوالي 25 مليون عبوة مدعمة سنويًا، بسعر رمزي يبلغ 5 جنيهات للعبوة، رغم أن تكلفة الإنتاج الحقيقية تتجاوز 150 جنيهًا، ويتحمل الفارق من قبل الدولة منذ عام 2018.
أما القطاع الخاص، فتسيطر عليه 4 شركات رئيسية تستورد حوالي 25 مليون عبوة سنويًا، تُطرح بأسعار تتراوح بين 300 و500 جنيه للعبوة، وفق نوعها وعلامتها التجارية، مما يشكل عبئًا ماليًا كبيرًا على الأسر.
“لاكتو مصر”.. هل يكون الحل؟
كانت الدولة قد وجهت شركة “لاكتو مصر” منذ 2017 بزيادة قدرتها الإنتاجية لتوفير ألبان الأطفال بدلاً من الاستيراد. ونجحت الشركة في مضاعفة إنتاجها لتغطية الحصة المخصصة من قبل الوزارة.
وتعود قصة “لاكتو مصر” إلى 2017، عندما أعلن وزير الصحة آنذاك عن “اكتشاف مصنع مصري لإنتاج ألبان الأطفال”، بعد عام من أزمة حادة أثرت على توافر الألبان، تسببت في احتجاجات شعبية.
قال الوزير حينها: “اكتشفنا وجود مصنع مصري اسمه لاكتو مصر على أرض مصرية، ويشارك في استثماراته شركة أكديما بنسبة 2%، وإنتاجه يغنينا عن الاستيراد.”
تُعد “لاكتو مصر” المصنع المحلي الوحيد المتخصص في إنتاج ألبان الأطفال المجففة، وتأسست عام 2000 على مساحة 31 ألف متر مربع، وتضم أول مصنع من نوعه في مصر والشرق الأوسط وإفريقيا.
وتعود ملكية 60% من الأسهم لمجموعة الكعكي السعودية، و2% لـ”أكديما”، فيما يمتلك رجل الأعمال إبراهيم عزت النسبة المتبقية.
توقف المصنع عن الإنتاج في 2005، إثر خلاف مع وزارة الصحة بسبب فساد شحنتين من الألبان داخل مخازن شركة التوزيع.
وبحسب وزارة الصناعة، يقتصر عمل المصنع على استيراد اللبن المجفف والفيتامينات، وخلطها وتعبئتها، وتسليمها لوزارة الصحة لطرحها بالسوق المحلي، ويغطي حوالي 60% من احتياجات السوق.
مراحل التحديث والتطوير
قال الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية، إن الدولة منذ 2017، وبتوجيهات رئاسية، بدأت عملية إعادة تأهيل مصنع “لاكتو مصر” لتمكينه من تصنيع ألبان الأطفال محليًا، مع ضخ استثمارات كبيرة لتحقيق ذلك.
أوضح أن هناك أنواعًا متعددة من ألبان الأطفال تُتداول، منها الألبان من أول يوم حتى 6 أشهر، ومن 6 أشهر حتى عامين، بالإضافة إلى أربعة أنواع علاجية أخرى.
وتم تنفيذ خطة لإعادة هيكلة المصنع على مراحل، تبدأ بإنتاج الكميات اللازمة لتلبية احتياجات وزارة الصحة، التي تقدر بنحو 25 مليون عبوة سنويًا، وبنفس الجودة التي توفرها الألبان المستوردة.
وأشار إلى نجاح المصنع في توفير هذه الاحتياجات دون انقطاع، حتى خلال فترات نقص العملات الأجنبية، مع الحفاظ على الجودة.
وتوفر الدولة عبوات الألبان المدعمة بسعر رمزي قيمته 5 جنيهات للعبوة، رغم أن تكلفة الإنتاج تصل إلى 150 جنيهًا، وتحمل الدولة هذا الفارق منذ 2018.
وفي المرحلة الثانية، بعد نجاح الأولى، تم التوسع في الإنتاج لتلبية جزء من احتياجات القطاع الخاص، مع زيادة الطاقة الإنتاجية بمقدار 10%، وطرح كميات محدودة من منتجي رقم 1 ورقم 2 منذ 2025، بسعر تقريبي 190 جنيهًا للعبوة، مقارنة بأسعار الألبان المستوردة التي تتراوح بين 300 و500 جنيه، وتكفي ثلاثة أيام.
وبيّن عوف أن استهلاك القطاع الخاص من الألبان المستوردة يُقدّر بحوالي 20 مليون عبوة سنويًا، ويهدف حاليا إلى تغطية السوق بألبان مصرية عالية الجودة، وبتكلفة أقل بكثير للمستهلك.
ويعتقد أن ذلك يمكن أن يتحقق بإما إنشاء مصنع جديد كامل، أو بالسماح للقطاع الخاص بالمشاركة في المصنع الحالي، لزيادة قدرته إلى 50 مليون عبوة سنويًا، لتغطية نحو 90% من السوق المحلي.
وشدد على أن هذا هو الاتجاه الآن، بهدف تقليل الاعتماد على العملة الصعبة، مع الحفاظ على معايير الجودة، وتقديم المنتج بأسعار مناسبة.
وأضاف أن المرحلة المستقبلية تستهدف توفير ألبان علاجية للأطفال الذين يعانون من حساسية أو أمراض، ويستهلك سوقها حوالي مليون عبوة سنويًا، بأسعار بين 700 و1000 جنيه للعبوة.
وعن التوسع في التصدير، أوضح عوف أن الدولة تسعى لفتح أسواق إفريقيا، خاصة مع وجود سوق واعدة يمكن لمصر أن تتواجد فيه بشكل قوي.
ملف “الأمن القومي”
قال محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، إن تصريحات الرئيس تعد خطوة مهمة في ملف ألبان الأطفال، وتؤكد وجود إرادة سياسية قوية لمعالجة قضية وطنية تتعلق بصحة الطفل وتقليل فاتورة الاستيراد.
أوضح أن تصنيع ألبان الأطفال محليًا يحقق الاكتفاء الذاتي، ويفتح أبواب التصدير إلى أسواق إفريقية، ويشكل فرصة لتطوير صناعة الأمن الغذائي والدوائي في مصر.
وتابع: “من غير المقبول أن نصل إلى 2025 دون أن نحقق الاكتفاء من ألبان الأطفال، خاصة تحت الظروف الاقتصادية الحالية.”
وأشار إلى أن غياب التسعير الجبري للألبان يعمق الأزمة، مع سيطرة عدد محدود من الشركات على السوق وتحديد الأسعار بحرية، حيث ارتفع سعر عبوة “بيبي لاك” من 95 جنيهًا في 2020 إلى 310 جنيهات، وبعض الأصناف تجاوزت 750 جنيهًا.
ولفت إلى أن الحكومة تخصص دعمًا كبيرًا للألبان المدعمة، لكن منظومة التوزيع تحتاج إلى تحسين، خاصة بعد أثبتت بعض التقارير وجود حالات فساد في التوزيع.
وختامًا، ذكر أن مصر تحتاج إلى تلبية الطلب المتزايد مع أكثر من مليون ولادة سنويًا، حيث يلزم حوالي 30% من الأطفال ألبانًا صناعية، وهو ما يبرز الحاجة إلى تطوير التصنيع المحلي وتعزيز قدراته الإنتاجية.