تحقيقات ومقالات

عصام عطا يكتب ألف سنة من التبسيط: الدحيح والتاريخ المصري بين السرد الجذاب والرواية الناقصة

هل ممكن التاريخ يتحكي غلط… من غير ما يبان إنه كذب؟

ألف سنة من التبسيط: الدحيح والتاريخ المصري بين السرد الجذاب والرواية الناقصة
هل ممكن التاريخ يتحكي غلط… من غير ما يبان إنه كذب؟
في زمن السرعة، بيبقى التبسيط مغري. بس أوقات بيحوّل حضارة كاملة لحكاية ناقصة، وساعات بيخلي الإنسان المصري مجرد مشهد جانبي في روايته هو.
التاريخ مش مجرد وقائع، لكن كمان طريقة سرد للوقائع.

المؤرخ البريطاني إي. إتش. كار (E. H. Carr) قال إن “التاريخ هو حوار بين الماضي والحاضر”. وده معناه إن أي قصة عن الماضي، مهما بدت محايدة، هي اختيار: اختيار لأحداث معينة، وتجاهل لأخرى. فهل ممكن التاريخ يتحكي غلط؟ أيوه… مش بالكذب الصريح، لكن بالاختزال، وبالسكوت عن التفاصيل اللي بتغير المعنى كله.
بعد ما شفت حلقة “ألف سنة من الانهيار” من الدحيح، استفزتني بعض الأراء المطروحة كحقايق وكمان لأنها بتقول حكاية ناقصة، وبتختزل آلاف السنين في كلمة واحدة: “انهيار”.
هل فعلًا دي نهاية الحضارة؟ ولا في رواية تانية؟ أعمق، وأصدق، وأقرب للي احنا عليه النهارده؟
المقال ده مش رد على الدحيح، قد ما هو دعوة نفكّر:
مين بيكتب تاريخنا؟ ومين مستفيد من إننا نصدق إننا انتهينا؟

التبسيط لما يتحوّل لتقزيم

الدحيح بيقدّم خدمة معرفية حقيقية، وده شيء مهم في عصر السرعة والانتباه القصير. لكن في تبسيط التاريخ، الخطر أكبر بكتير من تبسيط العلوم. لأن التاريخ مش معلومات جامدة، ده رواية بتشكّل وعي وهوية.
الحلقة اختزلت قرون من التغيّرات الاجتماعية والسياسية والدينية في مصطلح واحد: “انهيار”. والمصطلح ده – على الرغم من دراميته – بيفترض خط زمني مستقيم من القمة إلى القاع، من غير صراع داخلي، من غير لحظات مقاومة، ومن غير أي تراكم أو استمرار.
ده بيقزّم مش بس التاريخ، لكن كمان دور الإنسان المصري فيه.

فين الفاعل المصري؟

الحلقة قدّمت المصري كشخص سلبي، دايمًا بيتعرّض لغزو: ليبيين، نوبيين، آشوريين، فرس، يونانيين، رومان… إلى آخره. وده امتداد لخطاب استشراقي كلاسيكي، زي ما كتب إدوارد سعيد في “الاستشراق”، بيصوّر الشعوب الشرقية كمفعول به، مش كفاعل.
لكن الحقائق التاريخية بتقول العكس.
الملوك اللي اتقدّموا على إنهم “غزاة”، زي ششنق الأول، كانوا في الحقيقة جزء من النسيج الاجتماعي والسياسي المصري، وارتبطوا بالمعابد والبيروقراطية المحلية. ششنق نفسه – اللي جه من أصول ليبية – مشى على خطى الفراعنة، وقدّم نفسه كحامي لمعبد آمون، مش كغريب.
نفس الكلام ينطبق على الملك بعنخي (أو بيا) النوبي، اللي لما دخل مصر، قدّم نفسه كوريث شرعي لتقاليد آمون، وكتب نقش مشهور بيقول فيه إنه “جاء ليطهر المعبد”، مش ليحتل البلاد.
حتى تحت الحكم الفارسي أو البطلمي أو الروماني، المصريين ما كانوا شواهد. حصلت انتفاضات متكررة، أبرزها ثورات الكهنة والكُتّاب في الجنوب، خصوصًا في عهد البطالمة المتأخرين، اللي كانوا بيستخدموا المصرية الهيروغليفية في النقوش كشكل من أشكال المقاومة الثقافية.
الدكتور أليكس بوتشر، الباحث في تاريخ مصر في جامعة كمبريدج، بيشير في دراسته عن “الهوية في مصر المتأخرة” (2014) إلى إن المصريين لعبوا أدوار فعّالة في تشكيل السلطة، حتى تحت الاحتلال، من خلال الكهنوت، الإدارة المحلية، والمقاومة الثقافية، وبيأكد إن خطاب “الانهيار” مش دقيق لأنه بيتجاهل أشكال الاستمرار الذكية اللي استخدمها المصريون لحماية هويتهم.

القبطية والمسيحية: نهاية ولا تطوّر؟

واحدة من أخطر النقاط في الحلقة كانت الربط بين دخول المسيحية ونهاية الحضارة المصرية.
لكن الحقيقة إن القبطية مش قطيعة، بل تطوّر طبيعي للغة المصرية القديمة.
القبطية هي المرحلة الأخيرة من تطور اللغة المصرية، وبتكتب بالحروف اليونانية مضاف إليها سبع حروف من الديموطيقية، علشان تمثل أصوات مش موجودة في اليونانية.
العالم اللغوي جيمس ألين في كتابه Middle Egyptian بيأكد إن القبطية ساعدت بشكل كبير في فك رموز اللغة المصرية القديمة، بسبب التشابه الكبير في القواعد والأصوات. وده اللي خلى شامبليون يقدر يفك حجر رشيد في القرن 19، لكن بمساعدة علماء قبطيين، أبرزهم القس يوحنا الشفتشي، اللي اشتغل مع المستشرق الفرنسي إتيان كينوه ودوّن ملاحظات عن توافق اللغة القبطية مع الرموز الهيروغليفية.
الباحثة إيرينيا روبرتس، في بحثها عن “التحول اللغوي في مصر المتأخرة”، بتقول إن القبطية ما كانتش لغة استعمار، لكنها “جسر حضاري” حافظ على النحو والمعجم المصري، وده اللي خلّى فك الشيفرة الهيروغليفية ممكنًا.
أما الموسيقى القبطية، فالباحث رمزي يسّى أشار في أكتر من دراسة إلى إن المقامات القبطية فيها أوزان نغمية بترجع لأصول مصرية قديمة، زي مقام البياتي والسيكا، وده واضح في الترديد الطقسي داخل الأديرة في الصعيد.
يعني المسيحية ما كانتش انقطاع، لكنها لبست وش مصري، واتكتبت بلغة مصر، واتغنت بألحان مصر.

حضارة مستمرة… مش حضارة انتهت

اللي شاف في دخول المسيحية “نهاية”، تجاهل دلائل كتير على الاستمرار.
مكتبة الإسكندرية كمؤسسة فضلت مستمرة حتى عصور لاحقة، وكمان مدرسة الإسكندرية كمركز فلسفي وعلمي استمرت حتى القرن الخامس الميلادي، وخرجت فلاسفة زي كليمنت وأوريجانوس، وكان لها دور كبير في الجدل اللاهوتي والعلمي في العالم القديم.
في الطب، كتابات أطباء الإسكندرية في العصور المتأخرة – زي هيروفيلوس وإيراسيستراتوس – اتبنت فيها تقنيات تشريح متقدمة كانت امتداد لتقاليد مصرية قديمة في الطب، ظهرت بوضوح في برديات طبية زي بردية إيبرس وبردية إدوين سميث.
أما بطليموس الجغرافي، فكتاباته كانت ثورة في تصور العالم، رسم أول خريطة فيها خطوط طول وعرض دقيقة، وده ما كانش “علم يوناني” خالص، لكن بيئة مصرية فلكية ورصدية عمرها آلاف السنين، اتراكمت فيها معرفة فلكية منذ أيام أون وطيبة.

ردود الأفعال: غضب مفهوم

مش غريب إن الحلقة تثير غضب، خصوصًا من ناس حاسين إن السرد ده بيسحب منهم تاريخهم وهويتهم.
نقد مشابه حصل بعد أفلام ومسلسلات زي “أحمس” و”الملك”، لما الجمهور حس إن فيه مسخ للتاريخ المصري.
الهوية عندنا مش بس تاريخ مكتوب، لكن إحساس داخلي بالاستمرارية.
فلما الإعلام يبسّط الحكاية من غير ما يدي القارئ أو المشاهد إحساس بامتداده فيها، بيبقى كأنه بيقطع الجذور اللي الناس متعلقة بيها، خصوصًا في مجتمع بيعاني أصلًا من أزمة هوية بين الفرعونية والعروبة والمسيحية والإسلام.

فين صوت المؤرخين؟

الملاحظة الأهم، إن الحلقة – رغم جاذبيتها – كانت بتعتمد على منظور واحد، وأغلبه غربي.
أين أصوات الباحثين المصريين؟ فين إنتاج أكاديميين زي الدكتور عبد الحليم نور الدين، أو الباحثة ميس عبده في دراساتها عن الاستمرارية الثقافية بين مصر القديمة والقبطية؟
مفيش سرد موضوعي من غير تعددية. ومفيش تبسيط مسؤول من غير مراجعة المتخصصين.

الخلاصة: حكاية ما خلصتش

حلقة “ألف سنة من الانهيار” كانت جذابة في السرد كالعادة، لكن وقعت في فخ التبسيط الزائد، واختزلت حضارة معقدة في رسم بياني بيهبط بخط مستقيم.
لكن الحقيقة إن الحضارة المصرية ما ماتتش، بالعكس:
غيّرت جلدها.
اتكلمت بلسان جديد.
لبست وش ديني مختلف.
لكن فضلت تنتج وتبدع وتفكر.
وزي ما قال المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل: “الحضارات العميقة لا تموت، بل تنام وتغيّر جلدها”.
ويمكن السؤال الحقيقي مش: إمتى الحضارة المصرية انتهت؟
لكن:
مين من حقه يقرر إنها انتهت؟ ومين المستفيد من إننا نصدق إنها انتهت؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى